سورة النور - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


لما ذكر تعالى حالة الإيمان والمؤمنين وتنويره قلوبهم ووصفهم بما وصفهم من الأعمال النافعة في الآخرة أعقب ذلك بذكر مقابلهم الكفرة وأعمالهم، فمثل لهم ولأعمالهم مثلين أحدهما يقتضي بطلان أعمالهم في الآخرة وأنهم لا ينتفعون بها. والثاني يقتضي حالها في الدنيا من ارتباكها في الضلال والظلمة شبه أولاً أعمالهم في اضمحلالها وفقدان ثمرتها بسراب في مكان منخفض ظنه العطشان ماء فقصده وأتعب نفسه في الوصول إليه. {حتى إذا جاءه} أي جاء موضعه الذي تخيله. فيه {لم يجده شيئاً} أي فقده لأنه مع الدنو لا يرى شيئاً. كذلك الكافر يظن أن عمله في الدنيا نافعه حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم ينفعه عمله بل صار وبالاً عليه.
وقرأ مسلمة بن محارب: بقيعات بتاء ممطوطة جمع قيعة كديمات وقيمات في ديمة وقيمة، وعنه أيضاً بتاء شكل الهاء ويقف عليها بالهاء فيحتمل أن يكون جمع قيعة، ووقف بالهاء على لغة طيء كما قالوا البناه والأخواه في الوقف على البنات والأخوات. قال صاحب اللوامح: ويجوز أن يريد قيعة كالعامة أي كالقراءة العامة، لكنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف مثل مخر نبق لينباع. وقال الزمخشري: وقد جعل بعضهم بقيعات بتاء ممدودة كرجل عزهاة. وقال صاحب اللوامح: ويجوز أنه جعله مثل سعلة وسعلاة وليلة وليلاة، والقيعة مفرد مرادف للقاع أو جمع قاع كنار ونيرة، فتكون على هذا قراءة قيعات جمع صحة تناول جمع تكسير مثل رجالات قريش وجمالات صفر.
وقرأ شيبة وأبو جعفر ونافع بخلاف عنهما {الظمآن} بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم، والظاهر أن قوله {يحسبه الظمآن} هو من صفات السراب ولا يعني إلاّ مطلق {الظمآن} لا الكافر {الظمآن} وقال الزمخشري: شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها أن تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه يوم القيامة، ثم يخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدر بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة فيحسبه ماء، فيأتيه فلا يجد ما رجاه ويجد ربانية الله عنده، يأخذونه ويعتلونه ويسقونه الحميم والغساق وهم الذين قال الله فيهم {عاملة ناصبه} {يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً} وقيل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام انتهى. فجعل {الظمآن} هو الكافر حتى تطرد الضمائر في {جاءه} و{لم يجده} {ووجد} و{عنده} و{فوفاه} لشخص واحد، وغيره غاير بين الضمائر فالضمير في {جاءه} و{لم يجده} للظمآن. وفي {ووجد} للكافر الذي ضرب له مثلاً بالظمآن، أي ووجد هذا الكافر وعد الله بالجزاء على عمله بالمرصاد {فوفاه حسابه} عمله الذي جازاه عليه.
وهذا معنى قول أبي وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأفرد الضمير في {ووجد} بعد تقدم الجمع حملاً على كل واحد من الكفار.
وقال ابن عطية: يحتمل أن يعود الضمير في {جاءه} على السراب. ثم في الكلام متروك كثير يدل عليه الظاهر تقديره وكذلك الكافر يوم القيامة يظن عمله نافعاً {حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً} ويحتمل الضمير أن يعود على العمل الذي يدل عليه قوله {أعمالهم} ويكون تمام المثل في قوله {ماء} ويستغني الكلام عن متروك على هذا التأويل، لكن يكون في المثل إيجاز واقتضاب لوضوح المعنى المراد به.
{ووجد الله عنده} أي بالمجازاة، والضمير في {عنده} عائد على العمل انتهى. والذي يظهر لي أنه تعالى شبه أعمالهم في عدم انتفاعهم بها بسراب صفته كذا، وأن الضمائر فيما بعد {الظمآن} له. والمعنى في {ووجد الله عنده} أي {ووجد} مقدور {الله} عليه من هلاك بالظمأ {عنده} أي عند موضع السراب {فوفاه} ما كتب له من ذلك. وهو المحسوب له، والله معجل حسابه لا يؤخره عنه فيكون الكلام متناسقاً آخذاً بعضه بعنق بعض. وذلك باتصال الضمائر لشيء واحد، ويكون هذا التشبيه مطابقاً لأعمالهم من حيث أنهم اعتقدوها نافعة فلم تنفعهم وحصل لهم الهلاك بأثر ما حوسبوا. وأما في قول الزمخشري: فإنه وإن جعل الضمائر للظمآن لكنه جعل {الظمآن} هو الكافر وهو تشبيه الشيء بنفسه كما قال. وشبه الماء بعد الجهد بالماء. وأما في قول غيره: ففيه تفكيك الكلام إذ غاير بين الضمائر وانقطع ترصيف الكلام بجعل بعضه مفلتاً من بعض.
{أو كظلمات} هذا التشبيه الثاني لأعمالهم فالأول فيما يؤول إليه أعمالهم في الآخرة، وهذا الثاني فيما هم عليه في حال الدنيا. وبدأ بالتشبيه الأول لأنه آكد في الإخبار لما فيه من ذكر ما يؤول إليه أمرهم من العقاب الدائم والعذاب السرمدي. ثم أتبعه بهذا التمثيل الذي نبههم على ما هي أعمالهم عليه لعلهم يرجعون إلى الإيمان ويفكرون في نور الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والظاهر أنه تشبيه لأعمالهم وضلالهم بالظلمات المتكاثفة.
وقال أبو علي الفارسي: التقدير أو كذي ظلمات، قال: ودل على هذا المضاف قوله {إذا أخرج يده} فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف، فالتشبيه وقع عند أبي عليّ للكافر لا للأعمال وهو خلاف الظاهر، ويتخيل في تقرير كلامه أن يكون التقدير أو هم كذي ظلمات فيكون التشبيه الأول لأعمالهم. والثاني لهم في حال ضلالهم. وقال أبو البقاء: في التقدير وجهان أحدهما: أو كأعمال ذي ظلمات، فيقدر ذي ظلمات ليعود الضمير من قوله {إذا أخرج يده} إليه، ويقدر أعمال ليصح تشبيه أعمال الكفار بأعمال صاحب الظلمة إذ لا معنى لتشبيه العمل بصاحب الظلمات.
والثاني: لا حذف فيه، والمعنى أنه شبه أعمال الكفار بالظلمة في حيلولتها بين القلب وبين ما يهتدى إليه، فأما الضمير في قوله {إذا أخرج يده} فيعود إلى مذكور حذف اعتماداً على المعنى تقديره إذا أخرج من فيها يده.
وقال الجرجاني: الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار. والثانية في ذكر كفرهم ونسق الكفر على أعمالهم لأن الكفر أيضاً من أعمالهم، وقد قال تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور. من الكفر إلى الإيمان، فيكون التمثيل قد وقع لأعمالهم بكفر الكافر و{أعمالهم} منها كفرهم، فيكون قد شبه {أعمالهم} بالظلمات، والعطف بأو هنا لأنه قصد التنويع والتفصيل لا أن {أَو} للشك. وقال الكرماني: {أَو} للتخيير على تقدير شبه أعمال الكفار بأيهما شئت.
وقرأ سفيان بن حسين {أو كظلمات} بفتح الواو جعلها واو عطف تقدّمت عليها الهمزة التي لتقرير التشبيه الخالي عن محض الاستفهام. والظاهر أن الضمير في {يغشاه} عائد على {بحر لجي} أي يغشى ذلك البحر أي يغطي بعضه بعضاً، بمعنى أن تجيء موجة تتبعها أخرى فهو متلاطم لا يسكن، وأخوف ما يكون إذا توالت أمواجه، وفوق هذا الموج {سحاب} وهو أعظم للخوف لإخفائه النجوم التي يهتدى بها، وللريح والمطر الناشئين مع السحاب. ومن قدر أو كذي ظلمات أعاد الضمير في {يغشاه} على ذي المحذوف، أي يغشى صاحب الظلمات.
وقرأ الجمهور {سحاب} بالتنوين {ظلمات} بالرفع على تقدير خبر لمبتدأ محذوف، أي هذه أو تلك {ظلمات} وأجاز الحوفي أن تكون مبتدأ و{بعضها فوق بعض} مبتدأ وخبره في موضع خبر {ظلمات}. والظاهر أنه لا يجوز لعدم المسوغ فيه للابتداء بالنكرة إلاّ إن قدرت صفة محذوفة أي ظلمات كثيرة أو عظيمة {بعضها فوق بعض}. وقرأ البزي {سحاب ظلمات} بالإضافة. وقرأ قنبل {سحاب} بالتنوين {ظلمات} بالجر بدلاً من {ظلمات} و{بعضها فوق بعض} مبتدأ وخبر في موضع الصفة لكظلمات.
قال الحوفي: ويجوز على رفع {ظلمات} أن يكون {بعضها} بدلاً منها، وهو لا يجوز من جهة المعنى لأن المراد والله أعلم الأخبار بأنها ظلمات، وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض أي هي ظلمات متراكمة وليس على الأخبار بأن بعض ظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة ظلمات متراكمة. وتقدم الكلام في كاد إذا دخل عليها حرف نفي مشبعاً في البقرة في قوله {وما كادوا يفعلون} فأغنى عن إعادته، والمعنى هنا انتفاء مقاربة الرؤية، ويلزم من ذلك انتفاء الرؤية ضرورة وقول من اعتقد زيادة يكد أو أنه يراها بعد عسر ليس بصحيح، والزيادة قول ابن الأنباري وأنه لم يرها إلاّ بعد الجهد قول المبرد والفراء.
وقال ابن عطية ما معناه: إذا كان الفعل بعد كان منفياً دل على ثبوته نحو كاد زيد لا يقوم، أو مثبتاً دل على نفيه كاد زيد يقوم، وإذا تقدم النفي على كاد احتمل أن يكون منفياً تقول: المفلوخ لا يكاد يسكن فهذا تضمن نفي السكون.
وتقول: رجل منصرف لا يكاد يسكن فهذا تضمن إيجاب السكون بعد جهد انتهى. والظاهر أن هذا التشبيه الثاني هو تشبيه أعمال الكفار بهذه الظلمات المتكاثفة من غير مقابلة في المعنى بأجزائه لا جزاء المشبه.
قال الزمخشري: وشبهها يعني أعماله في ظلمتها وسوادها لكونا باطلة، وفي خلوها عن نور الحق بظلمات متراكمة من لجج البحر والأمواج والسحاب، ومنهم من لاحظ التقابل فقال: الظلمات الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة. والبحر اللجيّ صدر الكافر وقلبه، والموج الضلال والجهالة التي غمرت قلبه والفكر المعوجة والسحاب شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان.
وقال الفراء: هذا مثل لقلب الكافر أي إنه يعقل ولا يبصر. وقيل: {الظلمات} أعماله والبحر هواه. القيعان القريب الغرق فيه الكثير الخطر، والموج ما يغشى قلبه من جهل وغفلة، والموج الثاني ما يغشاه من شك وشبهة، والسحاب ما يغشاه من شرك وحيرة فيمنعه من الاهتداء على عكس ما في مثل نور الدين انتهى. والتفسير بمقابلة الأجزاء شبيه بتفسير الباطنية، وعدول عن منهج كلام العرب.
ولما شبه أعمال الكفار بالظلمات المتراكمة وذكر أنه لا يكاد يرى اليد من شدة الظلمة قال {ومن لم يجعل الله له نوراً} أي من لم ينور قلبه بنور الإيمان ويهده إليه فهو في ظلمة ولا نور له، ولا يهتدي أبداً. وهذا النور هو في الدنيا. وقيل: هو في الآخرة أي من لم ينوره الله بعفوه ويرحمه برحمته فلا رحمة له، وكونه في الدنيا أليق بلفظ الآية وأيضاً فذلك متلازم لأن نور الآخرة هو لمن نور الله قلبه في الدنيا. وقال الزمخشري: ومن لم يوله نور توفيقه وعصمته ولطفه فهو في ظلمة الباطل لا نور له. وهذا الكلام مجراه مجرى الكنايات لأن الألطاف إنما تردف الإيمان والعمل الصالح أو كونهما مرتقبين، ألا ترى إلى قوله {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وقوله {ويضل الله الظالمين} انتهى. وهو على طريقة الاعتزال.


لما ذكر تعالى مثل المؤمن والكافر وأن الإيمان والضلال أمرهما راجع إليه أعقب بذكر الدلائل على قدرته وتوحيده، والظاهر حمل التسبيح على حقيقته وتخصيص {من} في قوله ومن في الأرض بالمطيع لله تعالى من الثقلين. وقيل: {من} عام لكل موجود غلب من يعقل على ما لا يعقل، فأدرج ما لا يعقل فيه ويكون المراد بالتسبيح دلالته بهده الأشياء على كونه تعالى منزهاً عن النقائص موصوفاً بنعوت الكمال. وقيل: المراد بالتسبيح التعظيم فمن ذي الدين بالنطق والصلاة ومن غيرهم من مكلف وجماد بالدلالة، فيكون ذلك قدراً مشتركاً بينهما وهو التعظيم. وقال سفيان: تسبيح كل شيء بطاعته وانقياده.
{والطير صافات} أي صفت أجنحتها في الهواء للطيران، وإنما خص الطير بالذكر لأنها تكون بين السماء والأرض إذا طارت فهي خارجة من جملة {من في السموات والأرض} حالة طيرانها. وقرأ الجمهور {والطيرُ} مرفوعاً عطفاً على {من} و{وصافات} نصب على الحال. وقرأ الأعرج {والطير} بالنصب على أنه مفعول معه. وقرأ الحسن وخارجة عن نافع {والطيرُ صافاتٌ} برفعهما مبتدأ وخبر تقديره يسبحن. قيل: وتسبيح الطير حقيقي قاله الجمهور. قال الزمخشري: ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها. وقال الحسن وغيره: هو تجوّز إنما تسبيحه ظهور الحكمة فيه فهو لذلك يدعو إلى التسبيح.
{كل} أي كل ممن ذكر، فيشمل الطير والظاهر أن الفاعل المستكن في {علم} وفي {صلاته وتسبيحه} عائد على {كل} وقاله الحسن قال: فهو مثابر عليهما يؤديهما. وقال الزجاج: الضمير في {علم} وفي {صلاته وتسبيحه} لكل. وقيل: الضمير في {علم} لكل وفي {صلاته وتسبيحه} لله أي صلاة الله وتسبيحه اللذين أمر بهما وهدى إليهما، فهذه إضافة خلق إلى خالق. وقال مجاهد: الصلاة للبشر والتسبيح لما عداهم.
وقرأ الحسن وعيسى وسلام وهارون عن أبي عمر وتفعلون بتاء الخطاب، وفيه وعيد وتخويف. {ولله ملك السموات والأرض} إخبار بأن جميع المخلوقات تحت ملكه يتصرف فيهم بما يشاء تصرف القاهر الغالب. وإليه {المصير} أي إلى جزائه من ثواب وعقاب. وفي ذلك تذكير وتخويف.
ولما ذكر انقياد من في السموات والأرض والطير إليه تعالى وذكر ملكه لهذا العالم وصيرورتهم إليه أكد ذلك بشيء عجيب من أفعاله مشعر بانتقال من حال إلى حال. وكان عقب قوله وإليه المصير فاعلم بانتقال إلى المعاد فعطف عليه ما يدل على تصرفه في نقل الأشياء من حال إلى حال ومعنى {يزجي} يسوق قليلاً قليلاً ويستعمل في سوق الثقيل برفق كالسحاب والإبل، والسحاب اسم جنس واحده سحابة، والمعنى يسوق سحابة إلى سحابة. {ثم يؤلف بينه} أي بين أجزائه لأنه سحابة تتصل بسحابة فجعل ذلك ملتئماً بتأليف بعض إلى بعض.
وقرأ ورش يولف بالواو، وباقي السبعة بالهمز وهو الأصل. فيجعله {ركاماً} أي متكاثفاً يجعل بعضه إلى بعض، وانعصاره بذلك {من خلاله} أي فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم والانعصار. والخلال: قيل مفرد. وقيل: جمع خلل كجبال وجبل. وقرأ ابن مسعود وابن عباس والضحاك ومعاذ العنبري عن أبي عمرو والزعفراني من خلله بالإفراد، والظاهر أن في السماء جبالاً من برد قاله مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين: خلقها الله كما خلق في الأرض جبالاً من حجر. وقيل: جبال مجاز عن الكثرة لا أن في السماء جبالاً كما تقول: فلان يملك جبالاً من ذهب، وعنده جبال من العلم يريد الكثرة. قيل: أو هو على حذف حرف التشبيه.
و {السماء} السحاب أي {من السماء} التي هي جبال أي كجبال كقوله {حتى إذا جعله ناراً} أي كنار قاله الزجاج، فجعل السماء هو السحاب المرتفع سمي بذلك لسموه وارتفاعه. وعلى القول الأول المراد بالسماء الجسم الأزرق المخصوص وهو المتبادر للذهن، ومن استعماله الجبال في الكثرة مجازاً قول ابن مقبل:
إذا مت عن ذكر القوافي فلن *** ترى لها شاعراً مني أطلب وأشعرا
وأكثر بيتاً شاعراً ضربت له *** بطون جبال الشعر حتى تيسرا
واتفقوا على أن {من} الأولى لابتداء الغاية. وأما {من جبال}. فقال الحوفي: هي بدل من {السماء} ثم قال: وهي للتبعيض، وهذا خطأ لأن الأولى لابتداء الغاية في ما دخلت عليه، وإذ كانت الثانية بدلاً لزم أن يكون مثلها لابتداء الغاية، لو قلت: خرجت من بغداد من الكرخ لزم أن يكونا معاً لابتداء الغاية. وقال الزمخشري وابن عطية: هي للتبعيض فيكون على قولهما في موضع المفعول لينزل. قال الحوفي والزمخشري: والثانية للبيان انتهى. فيكون التقدير وينزل من السماء بعض جبال فيها التي هي البرد فالمنزل برد لأن بعض البرد برد فمفعول {ينزل} {من جبال}.
قال الزمخشري: أو الأولان للابتداء والأخيرة للتبعيض، ومعناه أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها انتهى. فيكون {من جبال} بدلاً {من السماء}.
وقيل: {من} الثانية والثالثة زائدتان وقاله الأخفش، وهما في موضع نصب عنده كأنه قال: وينزل من السماء جبالاً فيها أي في السماء برداً وبرداً بدل أي برد جبال. وقال الفراء: هما زائدتان أي جبالاً فيها برد لا حصى فيها ولا حجر، أي يجتمع البرد فيصير كالجبال على التهويل فبرد مبتدأ وفيها خبره. والضمير في {فيها} عائد على {الجبال} أو فاعل بالجار والمجرور لأنه قد اعتمد بكونه في موضع الصفة لجبال. وقيل: {من} الأولى والثانية لابتداء الغاية، والثالثة زائدة أي {وينزل من السماء من جبال} السماء برداً. وقال الزجاج: معناه {وينزل من السماء من جبال} برد فيها كما تقول: هذا خاتم في يدي من حديد، أي خاتم حديد في يدي، وإنما جئت في هذا وفي الآية بمن لما فرقت، ولأنك إذا قلت: هذا خاتم حديد كان المعنى واحداً انتهى.
فعلى هذا يكون {من برد} في موضع الصفة لجبال، كما كان من في من حديد صفة لخاتم، فيكون في موضع جر ويكون مفعول {ينزل} هو {من جبال} وإذا كانت الجبال {من برد} لزم أن يكون المنزل برداً. والظاهر إعادة الضمير في {به} على البرد، ويحتمل أن يكون أريد به الودق والبرد وجرى في ذلك مجرى اسم الإشارة. وكأنه قال: فيصيب بذلك والمطر هو أعم وأغلب في الإصابة والصرف أبلغ في المنفعة والامتنان.
وقرأ الجمهور {سنا} مقصوراً {برقه} مفرداً. وقرأ طلحة بن مصرف سناء ممدوداً {بُرَقه} بضم الباء وفتح الراء جمع برقه بضم الباء، وهي المقدار من البرق كالغرفة واللقمة، وعنه بضم الباء والراء اتبع حركة الراء لحركة الباء كما اتبعت في {ظلمات} وأصلها السكون. والسناء بالمدّ ارتفاع الشأن كأنه شبه المحسوس من البرق لارتفاعه في الهواء بغير المحسوس من الإنسان، فإن ذلك صيب لا يحس به بصر. وقرأ الجمهور {يذهب} بفتح الياء والهاء وأبو جعفر {يُذْهِب} بضم الياء وكسر الهاء. وذهب الأخفش وأبو حاتم إلى تخطئة أبي جعفر في هذه القراءة قالا: لأن الياء تعاقب الهمزة وليس بصواب لأنه لم يكن ليقرأ إلاّ بما روي. وقد أخذ القراءة عن سادات التابعين الآخذين عن جلة الصحابة أُبيّ وغيره، ولم ينفرد بها أبو جعفر بل قرأه شيبة كذلك وخرج ذلك على زيادة الباء أي يذهب الأبصار. وعلى أن الباء بمعنى من والمفعول محذوف تقديره يذهب النور من الأبصار كما قال:
شرب النزيف ببرد ماء الحشرج ***
يريد من برد. وتقليب الليل والنهار آيتان أحدهما بعد الآخر أو زيادة هذا وعكسه، أو يغير النهار بظلمة السحاب مرة وضوء الشمس أخرى، ويغير الليل باشتداد ظلمته مرة وضوء القمر أخرى، أو باختلاف ما يقدر فيهما من الخير والنفع والشدة والنعمة والأمن ومقابلاتها ونحو ذلك أقوال أربعة إن في ذلك إشارة إلى ما تقدم من الدلائل الدالة على وحدانيته من تسبيح من ذكر وتسخير السحاب. وما يحدثه تعالى فيه من أفعاله حتى ينزل المطر فيقسم رحمته بين خلقه وإراءتهم البرق في السحاب الذي يكاد يخطف الأبصار ويقلب الليل والنهار.
{لعبرة} أي اتّعاظاً. وخص أولو الأبصار بالاتّعاظ لأن البصر والبصيرة إذا استعملا وصلا إلى إدراك الحق كقوله {إنما يتذكر أولوا الألباب} وقرأ الجمهور {خَلقَ} فعلاً ماضياً. {كل} نصب. وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش خالق اسم فاعل مضاف إلى {كل}. والدابة: ما يحرك أمامه قدماً ويدخل فيه الطير. قال الشاعر:
دبيب قطا البطحاء في كل منهل ***
والحوت وفي الحديث:
«دابة من البحر مثل الظرب» واندرج في {كل دابة} المميز وغيره، فسهل التفصيل بمن التي لمن يعقل وما لا يعقل إذا كان مندرجاً في العام، فحكم له بحكمه كان الدواب كلهم مميزون. والظاهر أن {من ماء} متعلق بخلق. و{من} لابتداء الغاية، أي ابتدأ خلقها من الماء. فقيل: لما كان غالب الحيوان مخلوقاً من الماء لتولده من النطفة أو لكونه لا يعيش إلاّ بالماء أطلق لفظ {كل} تنزيلاً للغالب منزلة العام، ويخرج عما خلق من ماء ما خلق من نور وهم الملائكة، ومن نار وهم الجنّ، ومن تراب وهم آدم. وخلق عيسى من الروح وكثير من الحيوان لا يتولد من نطفة. وقيل {كل دابة} على العموم في هذه الأشياء كلها وإن أصل جميع المخلوقات الماء، فروي أن أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماءً، ثم خلق من ذلك الماء النار والهواء والنور، ولما كان المقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة وكان الأصل الأول هو الماء قال: {خلق كل دابة من ماء}. وقال القفال: ليس {من ماء} متعلقاً بخلق وإنما هو في موضع الصفة لكل دابة، فالمعنى الإخبار أنه تعالى خلق كل دابة متولدة من الماء أي متولدة من الماء مخلوقة لله تعالى. ونكر الماء هنا وعرف في {وجعلنا من الماء كل شيء حي} لأن المعنى هنا {خلق كل دابة} من نوع من الماء مختص بهذه الدابة، أو {من ماء} مخصوص وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة هوامّ وبهائم وناس كما قال {يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل} وهنا قصد أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس الذي هو جنس الماء، وذلك أنه هو الأصل وإن تخللت بينها وبينه وسائط كما قيل: إن أصل النور والنار والتراب الماء. وسمي الزحف على البطن مشياً لمشاكلته ما بعده من ذكر الماشين أو استعارة، كما قالوا: قد مشى هذا الأمر وما يتمشى لفلان أمر، كما استعاروا المشفر للشفة والشفة للجحفلة. والماشي {على بطنه} الحيات والحوت ونحو ذلك من الدود وغيره. و{على رجلين} الإنسان والطير والأربع لسائر حيوان الأرض من البهائم وغيرها، فإن وجد من له أكثر من أربع. فقيل: اعتماده إنما هو على أربع ولا يفتقر في مشيه إلى جميعها وقدم ما هو أعرف في القدرة وأعجب وهو الماشي بغير آلة مشى من له رجل وقوائم، ثم الماشي على رجلين ثم الماشي على أربع. وفي مصحف أُبيّ ومنهم من يمشي على أكثر، فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان لكنه لم يثبت قرآناً ولعله ما أورده مورد قرآن بل تنبيهاً على أن الله خلق من يمشي على أكثر من أربع كالعنكبوت والعقرب والرتيلاء وذي أربع وأربعين رجلاً وتسمى الاذن وهذا النوع لندوره لم يذكر.
{يخلق الله ما يشاء} إشارة إلى أنه تعالى ما تعلقت به إرادة خلقه أنشأه واخترعه، وفي ذلك تنبيه على كثرة الحيوان وأنها كما اختلفت بكيفية المشيء اختلفت بأمور أخر.


نزلت إلى قوله {إلا البلاغ المبين} في المنافقين بسبب منافق اسمه بشر، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ودعا هو إلى كعب بن الأشرف فنزلت.
ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد أتبع ذلك بذمّ قوم آمنوا بألسنتهم دون عقائدهم. {ثم يتولى فريق منهم} عن الإيمان. {بعد ذلك} أي بعد قولهم {آمنا} {وما أولئك} إشارة إلى القائلين فينتفي عن جميعهم الإيمان، أو إلى الفريق المتولي فيكون ما سبق لهم من الإيمان ليس إيماناً إنما كان ادّعاء باللسان من غير مواطأة بالقلب. وأفرد الضمير في {ليحكم بينهم} وقد تقدم قوله {إلى الله ورسوله} لأن حكم الرسول هو عن الله. قال الزمخشري: كقولك أعجبني زيد وكرمه يريد كرم زيد ومنه:
ومنهل من الفلافي أوسطه *** غلسته قبل القطا وفرطه
أراد قبل فرط القطا انتهى. أي قبل تقدم القطا إليه. وقرأ أبو جعفر {ليحكم} في الموضعين مبنياً للمفعول و{إذا} الثانية للفجاءة. جواب {إذا} الأولى الشرطية، وهذا أحد الدلائل على أن الجواب لا يعمل في إذا الشرطية خلافاً للأكثرين من النحاة، لأن إذا الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. وقد أحكم ذلك في علم النحو. والظاهر أن {إليه} متعلق بيأتوا. والضمير في {إليه} عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم. وأجاز الزمخشري أن يتعلق {إليه} بمذعنين قال: لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة وهذا أحسن لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص. وقد رددنا عليه ذلك وفي ما رجح تهيئة العامل للعمل وقطعه عن العمل وهو مما يضعف، والمعنى أنهم لمعرفتهم أنه ليس معه إلا الحق المرّ والعدل البحت يزورون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق لئلا تنزعه منهم بقضائك عليهم لخصومهم، وإن ثبت لهم الحق على خصم أسرع إليك كلهم ولم يرضوا إلا بحكومتك.
{أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون} {أم} هنا منقطعة والتقدير: بل ارتابوا بل أيخافون وهو استفهام توقيف وتوبيخ، ليقروا بأحد هذه الوجوه التي عليهم في الإقرار بها ما عليهم، وهذا التوقيف يستعمل في الأمور الظاهرة مما يوبخ به ويذم، أو مما يمدح به وهو بليغ جداً فمن المبالغة في الذم. قول الشاعر:
ألست من القوم الذين تعاهدوا *** على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر
ومن المبالغة في المدح. قول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا *** وأندى العالمين بطون راح
وقسم تعالى جهات صدودهم عن حكومته فقال {أفي قلوبهم مرض} أي نفاق وعدم إخلاص {أم ارتابوا} أي عرضت لهم الريبة والشك في نبوته بعد أن كانوا مخلصين {أم يخافون} أي يعرض لهم الخوف من الحيف في الحكومة، فيكون ذلك ظلماً لهم.
ثم استدرك ببل أنهم {هم الظالمون}.
وقرأ عليّ وابن أبي إسحاق والحسن {إنما كان قول} بالرفع والجمهور بالنصب. قال الزمخشري: والنصب أقوى لأن أولى الاسمين بكونه اسماً لكان أو غلهما في التعريف و{أن يقولوا} أو غل لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف قول المؤمنين. وكان هذا من قبيل كان في قوله {ما كان لله أن يتخذ من ولد} {ما يكون لنا أن نتكلم بهذا} انتهى. ونص سيبويه على أن اسم كان وخبرها إذا كانتا معرفتين فأنت بالخيار في جعل ما شئت منهما الاسم والآخر الخبر من غير اعتبار شرط في ذلك ولا اختيار.
وقرأ أبو جعفر والجحدري وخالد بن الياس {ليحكم بينهم} مبنياً للمفعول، والمفعول الذي لم يسم فاعله هو ضمير المصدر أي {ليحكم} هو أي الحكم، والمعنى ليفعل الحكم {بينهم} ومثله قولهم: جمع بينهما وألف بينهما وقوله تعالى {وحيل بينهم} قال الزمخشري: ومثله {لقد تقطع بينكم} فيمن قرأ {بينكم} منصوباً أي وقع التقطع بينكم انتهى. ولا يتعين ما قاله في الآية إذ يجوز أن يكون الفاعل ضميراً يعود على شيء قبله وتقدم الكلام في ذلك في موضعه.
{أن يقولوا سمعنا} أي قول الرسول {وأطعنا} أي أمره. وقرئ {ويتقه} بالإشباع والاختلاس والإسكان. وقرئ {ويتقه} بسكون القاف وكسر الهاء من غير إشباع أجرى خبر كان المنفصل مجرى المتصل، فكما يسكن علم فيقال علم كذلك سكن ويتقه لأنه تقه كعلم وكما قال السالم:
قالت سليمى اشتر لنا سويقاً ***
يريد اشتر لنا {ومن يطع الله} في فرائضه {ورسوله} في سننه و{ويخشى الله} على ما مضى من ذنوبه {ويتقه} فيما يستقبل. وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت له هذه.
ولما بلغ المنافقين ما أنزل تعالى فيهم أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأقسموا إلى آخره أي {ليخرجن} عن ديارهم وأموالهم ونسائهم و{لئن أمرتهم} بالجهاد {ليخرجن} إليه وتقدم الكلام في {جهد أيمانهم} في الأنعام. ونهاهم تعالى عن قسمهم لعلمه تعالى أنه ليس حقاً. {طاعة معروفة} أي معلومة لا شك فيها ولا يرتاب، كطاعة الخلص من المؤمنين المطابق باطنهم لظاهرهم، لا أيمان تقسموا بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها، أو طاعتكم طاعة معروفة بالقول دون الفعل، أو طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: يحتمل معاني.
أحدها: النهي عن القسم الكاذب إذ قد عرف أن طاعتهم دغلة رديئة فكأنه يقول: لا تغالطوا فقد عرف ما أنتم عليه.
والثاني: لا تتكلفوا القسم طاعة معروفة متوسطة على قدر الاستطاعة أمثل وأجدى عليكم، وفي هذا الوجه إبقاء عليهم.
والثالث: لا تقنعوا بالقسم طاعة تعرف منكم وتظهر عليكم هو المطلوب منكم.
والرابع: لا تقنعوا لأنفسكم بإرضائنا بالقسمة طاعة الله معروفة وجهاد عدوه مهيع لائح انتهى.
و {طاعة} مبتدأ و{معروفة} صفة والخبر محذوف، أي أمثل وأولى أو خبر مبتدأ محذوف أي أمرنا أو المطلوب {طاعة معروفة}. وقال أبو البقاء: ولو قرئ بالنصب لكان جائزاً في العربية وذلك على المصدر أي أطيعوا طاعة انتهى. وقدراه بالنصب زيد بن عليّ واليزيدي وتقدير بعضهم الرفع على إضمار ولتكن {طاعة معروفة} ضعيف لأنه لا يحذف الفعل ويبقى الفاعل، إلاّ إذا كان ثم مشعر به نحو {رجال} بعد {يسبح} مبنياً للمفعول أي يسبحه رجال، أو يجاب به نفي نحو: بلى زيد لمن قال: ما جاء أحد. أو استفهام نحو قوله:
ألا هل أتى أم الحويرث مرسل *** بلى خالد إن لم تعقه العوائق
أي أتاها خالد. {إن الله خبير بما تعملون} أي مطلع على سرائركم ففاضحكم. والتفت من الغيبة إلى الخطاب لأنه أبلغ في تبكيتهم.
ولما بكتهم بأن مطلع على سرائرهم تلطف بهم فأمرهم بطاعة الله والرسول وهو أمر عام للمنافقين وغيرهم. {فإن تولوا} أي فإن تتولوا. {فإنما عليه} أي على الرسول {ما حمل} وهو التبليغ ومكافحة الناس بالرسالة وإعمال الجهد في إنذارهم. {وعليكم ما حملتم} وهو السمع والطاعة واتّباع الحق. ثم علق هدايتهم على طاعته فلا يقع إلا بطاعته {وما على الرسول إلاّ البلاغ المبين} تقدم الكلام على مثل هذه الجملة في المائدة.
روي أن بعض الصحابة شكا جهد مكافحة العدو وما كانوا فيه من الخوف وأنهم لا يضعون أسلحتهم فنزل {وعد الله الذين آمنوا منكم}. وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما قال بعضهم ما أتى علينا يوم نأمن من فيه ونضع السلاح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تغبرون إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليس معه حديدة» قال ابن عباس: وهذا الوعد وعده الله أمّة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل. والخطاب في {منكم} للرسول وأتباعه و{من} للبيان أي الذين هم أنتم وعدهم الله أن ينصر الإسلام على الكفر ويورثهم الأرض ويجعلهم خلفاء. وقوله {في الأرض} هي البلاد التي تجاورهم وهي جزيرة العرب، ثم افتتحوا بلاد الشرق والغرب ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا. وفي الصحيح: «زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي عنها» قال بعض العلماء: ولذلك اتسع نطاق الإسلام في الشرق والغرب دون اتساعه في الجنوب والشمال. قلت: ولا سيما في عصرنا هذا بإسلام معظم العالم في المشرق كقبائل الترك، وفي المغرب كبلاد السودان التكرور والحبشة وبلاد الهند.
{كما استخلف الذين من قبلهم} أي بني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد هلاك الجبابرة.
وقيل: هو ما كان في زمان داود وسليمان عليهما السلام، وكان الغالب على الأرض المؤمنون. وقرئ {كما استُخْلِفَ} مبنياً للمفعول. واللام في {ليستخلفنهم} جواب قسم محذوف، أي وأقسم {ليستخلفنهم} أو أجرى وعد الله لتحققه مجرى القسم فجووب بما يجاوب به القسم. وعلى التقدير حذف القسم بكون معمول {وعد} محذوفاً تقديره استخلافكم وتمكين دينكم. ودل عليه جواب القسم المحذوف. وقال الضحاك: هذه الآية تتضمن خلافه أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ لأنهم أهل الإيمان وعمل الصالحات. وقال صلى الله عليه وسلم: «الخلافة بعدي ثلاثون» انتهى. ونيدرج من جرى مجراهم في العدل من استخلف من قريش كعمر بن عبد العزيز من الأمويين، والمهتدين بالله في العباسيين.
{وليمكنن لهم دينهم} أي يثبته ويوطده بإظهاره وإعزاز أهله وإذلال الشرك وأهله. و{الذي ارتضى لهم} صفة مدح جليلة وقد بلغت هذه الأمة في تمكين هذا الدين الغاية القصوى مما أظهر الله على أيديهم من الفتوح والعلوم التي فاقوا فيها جميع العالم من لدن آدم إلى زمان هذه الملة المحمدية. وقرأ الجمهور {وليبدلنهم} بالتشديد وابن كثير وأبو بكر والحسن وابن محيصن بالتخفيف. وقال أبو العالية: لما أظهر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب وضعوا السلاح وآمنوا، ثم قبض الله نبيه عليه السلام فكانوا آمنين كذلك في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا فيه وكفروا بالنعمة، فأدخل الله عليهم الخوف فغيروا فغير الله ما بهم.
{يعبدونني} الظاهر أنه مستأنف فلا موضع له من الإعراب كأنه قيل: ما لهم يستخلفون ويؤمنون فقال {يعبدونني} قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: {يعبدونني} فعل مستأنف أي هم {يعبدونني} ويعني بالاستئناف الجملة لا نفس الفعل وحده وقاله الحوفي قال: ويجوز أن يكون مستأنفاً على طريق الثناء عليهم أي هم {يعبدونني}. وقال الزمخشري: وإن جعلته حالاً عن وعدهم أي وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم فمحله النصب انتهى. وقال الحوفي قبله. وقال أبو البقاء: {يعبدونني} حال من {ليستخلفنهم} و{ليبدلنهم} {لا يشركون} بدل من {يعبدونني} أو حال من الفاعل في {يعبدونني} موحدين انتهى. والظاهر أنه متى أطلق الكفر كان مقابل الإسلام والإيمان وهو ظاهر قول حذيفة قال: كان النفاق على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب ولم يبق إلاّ كفر بعد إيمان. قال ابن عطية: يحتمل أن يريد كفر هذه النعم إذا وقعت ويكون الفسق على هذا غير مخرج عن الملة. قيل: ظهر في قتلة عثمان.
وقال الزمخشري: {ومن كفر} يريد كفران النعمة كقوله {فكفرت بأنعم الله} {فأولئك هم الفاسقون} أي هم الكاملون في فسقهم حيث كفروا تلك النعمة العظيمة. والظاهر أن قوله {وأقيموا} التفات من الغيبة إلى الخطاب ويحسنه الخطاب في منكم.
وقال الزمخشري: {وأقيموا الصلاة} معطوف على {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه. فاصل. وإن طال لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه وكررت طاعة الرسول توكيداً لوجوبها انتهى.
وقرأ الجمهور {لا تحسبن} بتاء الخطاب والتقدير، {لا تحسبن} أيها المخاطب ولا يندرج فيه الرسول، وقالوا: هو خطاب للرسول وليس بجيد لأن مثل هذا الحسبان لا يتصوّر وقوعه فيه عليه السلام. وقرأ حمزة وابن عامر لا يحسبن بالياء للغيبة، والتقدير لا يحسبن حاسب، والرسول لا يندرج في حاسب وقالوا: يكون ضمير الفاعل للرسول لتقدم ذكره في {وأطيعوا الرسول} قاله أبو عليّ والزمخشري وليس بجيد لما ذكرناه في قراءة التاء. وقال النحاس: ما علمت أحداً من أهل العربية بصرياً ولا كوفياً إلاّ وهو يخطئ قراءة حمزة، فمنهم من يقول: هي لحن لأنه لم يأت إلاّ بمفعول واحد ليحسبن، وممن قال هذا أبو حاتم انتهى. وقال الفرّاء: هو ضعيف وأجازه على حذف المفعول الثاني وهو قول البصريين تقديره أنفسهم. و{معجزين} المفعول الثاني.
وقال عليّ بن سليمان: {الذين كفروا} في موضع نصب قال: ويكون المعنى ولا يحسبن الكافر {الذين كفروا معجزين في الأرض}. وقال الكوفيون: {معجزين} المفعول الأول. و{في الأرض} الثاني قيل: وهو خطأ وذلك لأن ظاهر في {الأرض} تعلقه بمعجزين، فلا يكون مفعولاً ثانياً. وخرج الزمخشري ذلك متبعاً قول الكوفيين. فقال {معجزين في الأرض} هما المفعولان والمعنى لا يحسبن الذين كفروا أحداً يعجز الله في الأرض حتى يطمعوا لهم في مثل ذلك، وهذا معنى قوي جيد انتهى. وقال أيضاً: يكون الأصل: لا يحسبنهم {الذين كفروا معجزين} ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول، وكان الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت كالشيء الواحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث انتهى. وقد رددنا هذا التخريج في آل عمران في قوله {لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا} في قراءة من قرأ بياء الغيبة، وجعل الفاعل {الذين يفرحون} وملخصه أنه ليس هذا من الضمائر التي يفسرها ما بعدها فلا يتقدر لا يحسبنهم إذ لا يجوز ظنه زيد قائماً على تقدير رفع زيد بظنه.
{ومأواهم النار} قال الزمخشري: عطف على {لا تحسبن} كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله {ومأواهم النار} والمراد بهم المقسمون جهد أيمانهم انتهى. وقال صاحب النظام لا يحتمل أن يكون {ومأواهم} متصلاً بقوله {لا تحسن الذين كفروا معجزين في الأرض} بل هم مقهورون {ومأواهم النار} انتهى. واستبعد العطف من حيث إن {لا تحسبن} نهي {ومأواهم النار} جملة خبرية فلم يناسب عنده أن يعطف الجملة الخبرية على جملة النهي لتباينهما وهذا مذهب قوم. ولما أحس الزمخشري بهذا قال: كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله فتأول جملة النهي بجملة خبرية حتى تقع المناسبة، والصحيح أن ذلك لا يشترط بل يجوز عطف الجمل على اختلافها بعضاً على بعض وإن لم تتحد في النوعية وهو مذهب سيبويه.

1 | 2 | 3 | 4